عبد القـادر زعـري
أواخر رمضان كانت الزيارات العائلية تقل كثيرا، بسبب انشغال الأسر وعيائها والاستعدادات لعيد الفطر السعيد. وبقلة الزيارات تقل لدينا المؤونة وتقل معها رائحة الحرية، فيسيطر على السجن هدوء وسكون رهيبين، ومعهما تزداد الوحشة وعذاب الإحساس بالغربة.
فنبقى نساير الأيام يوما بيوم وساعة بساعة، وننخرط في اكتئاب عميق. فالعالم حولنا سعيد ونشيط ومتحمس لفرحة العيد، ونحن في عزلة تامة وعياء شديد، نُصاب بالارتخاء وكأننا سكارى. نتبادل النظرات وكلامنا بالنهار تقريبا شبه منعدم.
النهار طويل طويل طويل والليل ما أقصره. كنا ننشغل فقط بالاستحمام على رأس كل ساعة، للتخلص من العرق المتصبب على مدار الساعة، وللإحساس ببعض الحيوية ومقاومة الحرارة.
حينما كان يشتد بنا الشوق والحنين لجو رمضان وليلة القدر واحتفالات الناس بتلك الأجواء، كنا نطلب من أحدنا أن يسافر بنا إلى الخارج. كيف ؟
نتجمع حول أحدهم ممن يملك هاتفا. فيتصل بآخر من أصدقائه بالخارج، الأخير يكون في المسجد أو في احتفال تقليدي في جلسة ما (أمداح نبوية، طرب أندلسي، أهازيج دينية) فيفتح هاتفه، ونحن نضع هاتفنا بوضعية (haute parleur) وها نحن مع القوم الذين رضي الله عنهم بنعمة الحرية ومشاركة أمة المسلمين أفراحها. فيما يكون عنصران من ذوي السمع القوي، ملتصقات بآذانهم على باب الغرفة الحديدي، كلما سمع خطوات الحراس يعلن إشارة فيخرس الهاتف.
بهاته الطريقة وحدها وبكل الوسائل مهما ضغرت يا أصدقاء كنا ننخرط مع أمة سيدنا محمد في أفراحها ونحن نقاوم دموعنا من الفرحة والتأثر والشوق والحنين. مجرد سماع المصلين وهو يصدحون بالصلاة على رسول الله جماعة في المسجد تقتشعر أبداننا. وأما إن حضر ناقل الأجواء بالهاتف حفلة دينية ما، فنكون نحن الأكثر تركيزا وحضورا في الحفل من حاضريه، هم يحضرونه بالأجساد ونحن نحضر بكل ما فينا من تركيز.
حينما ننتشي فرحا، نقوم بحماس ونجمع الحلويات من كل من له بعضها، نضعها في صحن ونضع الصحن وسط الحلقة وكأننا في حفل حقيقي، نصب العصير أو الشاي أو الحليب أو حتى الماء ونُمضي ليلتنا السعيدة.
لم نكن في نعيم أبدا. كنا مقبورين تحت طبقات أحكام بالسجن ولسنين عددا. لكن نغتنم الفرص لنشعر أننا أحياء، ونحاول إخبار المجتمع اللاهي عنا، أن الأفراح ما خلقها الله حكرا على أحد.
إلى الله المُشتكى من الظلمة الذين يدفنون الناس ظلما. وله الحمد وحده على أقداره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق