ذاكرة سجين ..الصيف والسجن_3 (عيد العرش)



بعض مضي ستة أأشهر على التحاقي بغرفة "أخطر المجرمين" سوف أتفاجأ بكون أن الملك يحضى بمكانة خاصة لدى السجناء. بل المكانة المركزية. ولذلك عوامل وأسباب تاريخية ونفسية. فالمناسبات الوطنية مرتبطة وبقوة في ذاكرة كل السجناء بشيء اسمه "العفو الملكي". وهم ينتظرون المناسبات ويعدون الشهور والأسابيع والأيام لسماع أي خبر عن "العفو الملكي".

فالسجناء لا يهتمون لا بالوزراء ولا بالحكومة ولا بالبرلمان ولا بالانتخابات ولا بمن طلع ولا بمن هبط. لا يعترفون إلا بالملك والملك فقط. والملك وحده لا شريك له. ويعتبرون أن الانتخابات هي مجرد مضمار للتسابق نحو الاستمتاع بالمناصب والخيرات والتقلب في نعم الشعب، كان بنكيران بمهارته في الخطب يحضى بقدر مهم من الاحترام لديهم، لكنهم يعتبرون أن ذلك لن يفيد في ترقيع الوضع.
أنا أتكلم لكم عن رفاقي وهم من المحكومين بالمؤبدات والعشرين سنة والثلاثين سنة. قبل باقي السجناء. 
كانوا ينتظرون بفارغ الصبر كل مناسبة يوجه فيها الملك خطابا إلى الأمة. وقبل يوم من حلول المناسبة ومتابعة الخطاب، يعلنون حالة استنفار للقيام بكل ما شأنه أن يمكنهم من متابعة الخطاب الملكي مباشرة وبدون أي عطب تقني في التلفاز أو اللاقط الهوائي، قد يمنعنا من مشاهدة الملك وهو يخطب.

حينما تحين ساعة الخطاب يعم الصمت المطبق كل الغرف وكل السجن. وكل الآذان والأبصار تتوجه نحو أجهزة التلفاز. وحينما يبدأ عزف النشيد الوطني يزيدون في صوت جهاز التلفاز فيتسمر الجميع وتنحبس الأنفاس ويعم خشوع غريب وتقشعر الجلود.
يتابع الجميع. القارئ منهم والأمي. في خشوع تام. وتسمع صدى صوت الخطاب يتردد في المعابر والممرات والدهاليز وفي كامل أنحاء السجن الواسع. لحظات قوية ومثيرة لا يمكنك معايشتها إلا في سجون المغرب.
في السجن وفي جميع سجون المملكة. حينما يخطب الملك. لا شيء يعلو على صوت الملك. ما كان يهم السجناء ليس المضمون الذي كانوا يجدون صعوبة في فهم تفاصيله. بل ما يهمهم هو الهيبة والقوة والسطوة التي يرونها مجسدة في شخص العاهل المغربي، فالنشيد الوطني المعزوف بصوت عال جدا، وقوة ألوان العلم الوطني، والصرامة ورباطة الجأش الواضحة في صوت الملك، كل ذلك يخلق جوا عاما من الخشية والرهبة والخشوع فيصبح الجميع في غياب تام عن الواقع وكأننا في حضرة السدة العالية.
كل هذا يحدث تلقائيا. عشته وعشت تفاصيله.
وكالعادة، وبعد نهاية كل خطاب مباشرة. كان السجناء في غرفتي، يخفضون صوت التلفاز ويتحلقون حولي، كي أشرح لهم ما الذي قاله الملك. فأشرح لهم بلغة سهلة ومبسطة. وأجيب على أسئلتهم المتعبة لي والمرهقة، وكأنني في ندوة صحفية.
وكم كانوا يفرحون وينتشون حينما يسمعون أن الملك انتقد البرلمان أو الحكومة أو الأحزاب ... فهم يعتبرون أن الملك يعمل ويسافر إلى الدول ليأتي بالمشاريع ويجلب العملة والسلاح لخدمة المغاربة، بينما الباقين كلهم يتقاضون الأموال ويشترون السيارات ويبنون مشاريعهم فقط.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تاريخ المغرب .. الثائر أحمد الريسوني

10 إستراتيجيات للتحكم في الشعوب في كتاب لنعوم تشومسكي

مقتل الجنرال الدليمي .. هل تم تفجير سيارته بواسطة قنبلة موقوتة حولت جسده إلى أشلاء ..