2018/06/08

رمضان والسجن_7 .. قصة ياسين المأساة 3/3

عبد القـادر زعـري

تفاقمت وضعية ياسين النفسية والعصبية، ومعه ازدادت معاناتنا، فأحلى الأوقات كانت لدينا ما بعد الغروب وحتى النوم. وكان خلالها يوميا يقوم لمحادثة الحائط. وزادت حالته في رمضان بعد الفطور. حاولنا معه زيارة الطبيب وكان يرفض. التمسنا منه أن يدخل المطبخ ليُحادث "أصحابه" فرفض واستمر في حاله.


خلال العشر الأواخر من أول رمضان نمضيه معا في غرفتا الشهيرة، وبعدما "استعرنا" إماما لنستمطر رحمة الله مثل باقي أمة سيدنا محمد، قمنا أول ليلة لإحياء التراويح. وكانت أول مرة يحدث ذلك في تاريخ الغرفة "غرفة أخطر المجرمين" منذ سنوات.

توجهنا نحو القبلة. كل في مكانه. أصحاب الأسرة المنخفضة يستقبلون القبلة وهم جلوس. وأصحاب الأسرة العلوية يستقبلون القبلة وهم وقوف. وسيطر على الغرفة صمت وهدوء يبعثان الرهبة في النفوس، وكأننا لأول مرة نواجه الحق سبحانه.

قمت وخاطبت زملائي. "أيها الإخوة الكرام. نحن في العشر الأواخر من رمضان، ولا ندري هل نلحق رمضان المقبل أم سنكون عند الله. لنُصل بقلوبنا ونطلب من الله العفو والعافية، هو الوحيد الذي بقي لنا، لا يُدوخكم الشيطان ويقول إنكم لا تحافظون على الصلاة وستتركونها ولا داعي من الدعاء...

وكبر الإمام وكبرنا وراءه، وشرعنا في الصلاة، وعند نهاية سورة الفاتحة ضجت الغرفة ب"آمين" واقشعرت جلودنا جميعا، نحن السجناء المطحونون بأحكام سجنية أقلها عشرة سنوات، نحن الذين اقتنع المجتمع أننا محرومون من رحمة الله.

كان صوت الإمام شجيا عذبا ونفوسنا منفتحة لذكر الله وأرواحنا تحلق عاليا وهي تشم رائحة النبيين وتتخاطب مع الله عز وجل، وغشيت الرحمة المكان، وطيف الملائكة خيم على الغرفة التي أقبرنا فيها قدر الله لحكمة يراها، وكل أمر من الله فيه الخير.

ياسين المسكين، كان يخاطب الحائط. وعند سماعه التكبير وصوت الإمام وهو يتلو القرآن توقف وصمت. توجه نحو الحمام وتوضأ ثم وقف وراءنا وكبر واندمج معنا. عند الانتهاء من صلاة العشاء نظرنا للوراء فرأينا مُصطفا معنا. تبادلنا النظرات والابتسامات الخفيفة، وواصلنا الصلاة وواصل معنا. نسينا الحياة الفانية وخلفنا الدنيا وراء ظهورنا وارتحنا في حضرة الله. الجميع مُنصت والجميع خاشع والله فوق الجميع.

بعد الانتهاء دعى الإمام ونحن نؤمم ثم رفعنا أصواتنا بالاستغفار والصلاة على خير الورى. "اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أُغلق والخاتم ..." وعند الانتهاء تصافحنا في جو لا يُمكن وصفه من الصفاء والطمأنينة ونحن مدفونون في ذلك القبر المُظلم..

أنا أصف لكم جو رمضان في غرفة "أخطر المجرمين"، أحكامهم الإعدام والمؤبد وثلاثون سنة وخسمة وعشرون وعشرون وأقلهم عبد ربه، أنا صاحب العشر سنوات. قلب العبد بيد الله لا حد بينهما ولا فاصل، والله ينظر إلى قلوب العباد لا إلى صُورهم.

نسيت أن أذكر لكم أن ياسين وعند الانتهاء من أول تراويح، أغرقناه بالهدايا لمشاركته معنا في الصلاة جماعة، وعن تضحيته بترك مخاطبة الحائط عند بدء الصلاة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق